مقـــــــــدمة …
تخيّل أن تعمل بجد، تبتكر، تلتزم بالمواعيد، وتبذل ما بوسعك لتنجح مؤسستك… ثم تُفاجأ أنّ كل هذا يتحول ضدك !
قد يبدو الأمر غريبًا، لكنّه واقع يعيشه كثير من الموظفين المتميزين. ففي بيئات عمل عديدة، بدلًا من أن يكون التميز جسرًا للتقدير والنجاح، يتحول إلى سبب للتهميش أو الإقصاء أو حتى المعاملة الجافة .
من المؤلم أن ترى شخصًا مبدعًا يتراجع عن حماسه، لا لأنه ضعيف، بل لأنه لم يجد من يُحسن استثماره. هذه ليست مشكلة فردية تخص الموظف وحده، بل هي أزمة إدارية تضرب في عمق المؤسسة، وتُهدر طاقات ثمينة لا تُعوّض بسهولة .

أولًا : لماذا يخشى بعض المديرين الموظف المتميز ؟
وما الذي يدفع مديرًا – يُفترض أنه قائد – إلى تهميش موظف ناجح ؟
الخوف من التهديد :
يخشى بعض المديرين أن يسطع نجم موظف كفء فيغطي على حضورهم. بدلًا من أن يروا في التميز فرصة لنجاح جماعي، يتعاملون معه كتهديد شخصي. فيحاولون كبحه، إبعاده عن المشروعات المهمة، أو تجنب إبرازه أمام الإدارة العليا .
ضعف مهارات القيادة :
ليس كل من يحمل لقب “مدير” يصلح أن يكون قائدًا. القيادة تتطلب وعيًا نفسيًا، ومهارات تواصل، وقدرة على بناء الثقة. المدير الذي يفتقد هذه المهارات غالبًا ما يميل إلى السيطرة المفرطة. بالنسبة له، الموظف المتميز صداع مستمر لأنه يُظهر عجزه في إدارة المواقف .
الغيرة المهنية :
قد لا نعترف بها كثيرًا، لكن الغيرة موجودة. أحيانًا يُسيطر على المدير شعور داخلي: “لماذا يبرع هذا الموظف في ما لم أستطع فعله؟”، فيتحول هذا الإحساس إلى تصرفات سلبية: إهمال الإنجازات، تقليل من القيمة، أو حتى وضع العراقيل المتعمدة .
غياب نظام واضح للتقدير :
في بعض المؤسسات، لا توجد معايير شفافة لمكافأة الأداء المتميز. النتيجة؟ يترك الباب مفتوحًا لتقديرات شخصية، يقرر فيها المدير من يستحق ومن يُهمل. وهذا يفتح المجال للظلم، حتى لو كان المتميز أحق الناس بالتقدير .
استنزاف المتميز :
أحيانًا لا يكون التهميش بالتجاهل، بل بالعكس: بتحميل الموظف المتميز فوق طاقته. “أنت الأفضل، إذن ستقوم بكل شيء.فتجد الموظف الغيور أو غير الكفء مرتاحًا، بينما المتميز يغرق في مهام متكررة بلا مقابل معنوي أو مادي .
ثانيًا : كيف يظهر التهميش في أرض الواقع ؟
⏺︎ تكليف الموظف المتميز و المبدع بأعمال روتينية تقتل قدراته .
⏺︎ منعه من حضور اجتماعات أو مؤتمرات مهمة تطويرية .
⏺︎ تجاهل مقترحاته في النقاشات أو مقاطعته عمدًا .
⏺︎ التقليل من إنجازاته أمام الفريق .
⏺︎ حرمانه من الترقي رغم أحقيته .
ثالثًا : ماذا يخسر الموظف… وماذا تخسر المؤسسة ؟
فقدان الحافز :
الموظف حين يدرك أنّ جهده لا يُقدَّر، يبدأ بالتراجع. لا لكسل فيه، بل لأنه لم يجد بيئة تشجعه.
الانسحاب أو الهجرة الوظيفية :
كثير من المتميزين لا يستسلمون. بل يبحثون عن مكان آخر يُقدّرهم. وهنا تبدأ المؤسسة في خسارة أغلى ما لديها: رأس مالها البشري .
تأثير سلبي على الفريق :
الفريق لا يغيب عنه ما يحدث. الجميع يلاحظون كيف يُعامل المتميز. فإذا وجدوا أنّ التميز يعاقَب، فلن يسعى أحد للمبادرة. وتتحول بيئة العمل إلى ساحة لأداء الحد الأدنى فقط .
خسارة الابتكار :
المؤسسات التي لا تحتضن المتميزين تفقد فرصًا ذهبية للابتكار. فكرة واحدة كان يمكن أن تغيّر مسار الشركة تضيع لأنها وُئدت قبل أن ترى النور .
رابعًا : كيف نحول التميز من عبء إلى فرصة ؟
القيادة التمكينية :
القائد الحقيقي لا يخاف من تميز الآخرين. بل يرى فيه قوة ترفع الجميع. المطلوب أن يمنح المدير الموظف المتميز مساحة حقيقية للإبداع وصلاحيات تسمح له بالابتكار .
الاعتراف العلني بالإنجاز :
كلمة “شكرًا” أمام الفريق قد تكون أثمن من مكافأة مالية. الاعتراف العلني لا يرفع معنويات الموظف وحده، بل يرسل رسالة للجميع: “هنا يُكافأ من يعمل بإخلاص .
العدالة في تقييم الأداء : 
لا بد من معايير واضحة وشفافة. لا يجوز أن يكون التقييم رهينًا لأهواء مدير. فالعدالة هي الأساس الذي يضمن أن يحصل كل فرد على ما يستحق .
الاستثمار في التطوير :
الموظف المتميز يحتاج إلى تغذية مستمرة: تدريب، ورش، مؤتمرات. البيئة التي تغلق أمامه أبواب التعلم، ستجده يغادر قريبًا إلى حيث يجد النمو .
التوازن في توزيع الأعباء :
التميز لا يعني الاستنزاف. المتميز يستحق مهام تليق بقدراته، لا أن يُرهق بأعمال الآخرين .
خامسًا : الجانب النفسي للمتميزين المهمشين
هل تساءلت يومًا: كيف يشعر موظف متميز حين يُقصى ؟
حين يتحول الإبداع إلى عبء، يبدأ الصراع النفسي الداخلي في الظهور. فالموظف المتميز لا يبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن بيئة تُنصف جهده وتُقدّر أثره. وحين يُقابَل عطاؤه بالتجاهل أو التهميش، يتصدّع داخله الشعور بالانتماء، وتبدأ رحلة الانسحاب النفسي خطوةً بعد أخرى .
تولد صدمة ، تليها محاولات إثبات ذات، ثم إحباط وانسحاب نفسي أو فعلي وهي دورة تتكرر كلما غابت الشفافية والتقدير .

وهذه المراحل الأربعة هي مايمر به ويشعر به الموظف المتميز حين يقصي
1️⃣ الصدمة :
تبدأ الرحلة بارتباك داخلي، حين يكتشف الموظف المتميزأن جهده لا يُقابَل بالترحيب، يتساءل في صمت: كيف تحوّل إخلاصي إلى تهديد؟ كيف أصبح اجتهادي عبئًا على من حولي؟ إنها لحظة فقدان توازن، تشبه من يمد يده بالخير فيُقابل بالنفور.
2️⃣ المقاومة :
بعد الصدمة، يبدأ الصراع الداخلي. يحاول المتميز أن يثبت أنه لا يستحق هذا التهميش، فيضاعف مجهوده، يبادر أكثر، يشارك بحماس مضاعف. يظن أن العمل الجيد وحده كفيل بتغيير النظرة نحوه. لكنه يصطدم مجددًا بأن الأداء الرائع لا يغيّر قلوب من قرروا أن لا يروا.
3️⃣ الإحباط :
حين لا يجد تجاوبًا، يبدأ الإحباط في التسلل بهدوء. يشعر أن طاقته تُستنزف دون معنى، وأن كل إنجاز يُمحى بصمت متعمد. يتوقف عن اقتراح الأفكار، ويتحول صمته إلى درعٍ يحمي ما تبقّى من كرامته. وهنا، تذبل شعلة التميز التي كانت تُنير الفريق يومًا
4️⃣ الانسحاب :
حين يطول الإهمال ويثقل الشعور باللاجدوى، يختار المتميز الصمت طريقًا للنجاة. لا يثير ضجيجًا، ولا يبحث عن مواجهة، بل ينسحب بهدوء من كل ما كان يؤمن به. قد يظل جسده في المكان، لكن روحه تغادر قبله بزمن. وهكذا، تخسر المؤسسة واحدًا من أنقى مواردها، لا لأنّه فشل، بل لأن أحدًا لم يلاحظ أنه كان يحترق لينير للآخرين الطريق
فالإهمال المتكرر يطفئ الدافعية كما تُطفئ الريح شمعة مضيئة، فيتحول المتميز إلى عنصر صامت بعد أن كان مصدر طاقة .
ختــــــــــاما …
من المؤلم أن يتحول التميز من نعمة إلى نقمة في بيئة العمل. لكن الحقيقة أنّ السبب ليس في المتميز نفسه، بل في إدارة لم تُحسن استثماره .
إنّ الموظف المبدع ليس تهديدًا لمكانة المدير، بل ضمان لمستقبل المؤسسة. وغياب العدالة والتقدير لا يُهدر جهد الأفراد فقط، بل يضرب في صميم روح الفريق، ويهدم فرص المؤسسة في التقدم .
الطريق واضح: قيادة واعية، بيئة عادلة، ثقافة تقدير حقيقية. حينها فقط يصبح التميز قيمة مضافة لا عبئًا، ويزدهر الفريق بما يحمله من طاقات متنوعة .
مايسة محمد علي
مسئول التدريب والتطوير التمريضي بمديرية الصحة بمطروح
مدرب معتمد في ادارة وتطوير الذات من
النقابة العامة لمدربي التنمية البشرية
عضو الهيكل التدريبي بالمعهد العربي للاعتماد


 
						 
						