في خضم الحياة اليومية ، نُصبح غارقين في الالتزامات ، نسابق الزمن لتحقيق أهدافنا ، وننسى أهم شيء ، أنفسنا ، بين ضغوط العمل ومتطلبات الأسرة والمجتمع ، نجد أننا نبتعد شيئًا فشيئًا عن إدراك هويتنا الحقيقية وغاياتنا في هذه الحياة .
كما يقول الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ الرعد: 11
هل سبق لك أن توقفت وسألت نفسك “من أنا ؟ وما الذي أريده حقًا ؟ ربما يكون هذا السؤال بداية رحلة جديدة ، رحلة لإعادة اكتشاف الذات التي ضاعت في زحمة الأيام ، هذه الرحلة ليست مجرد رفاهية ، بل هي حاجة ملحّة لتحقيق التوازن والسعادة التي نصبو إليها جميعًا . ومعرفة الذاتة هي البداية الحقيقية لإحداث عملية التغيير بداخلك.
أهمية التعرف على الذات في ضوء الدين والحكمة الإنسانية
يدعونا الدين والتجارب الإنسانية إلى التأمل والتفكر في ذواتنا. فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز:
﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ الذاريات: 21
هذه الدعوة الإلهية تحمل رسالة واضحة بأن التفكر في النفس واكتشاف حقيقتها هو طريق لفهم دورنا في هذا الكون.
وفي السنة النبوية، نجد معنى مشابهًا في الحديث المنسوب :
“من عرف نفسه فقد عرف ربه”، وهو ما يؤكد أهمية فهم الذات كوسيلة لإدراك العلاقة بيننا وبين الخالق .
وفي الكتاب المقدس، جاء في سفر الأمثال :
( القلب العاقل يكتسب معرفة ، وأذن الحكماء تطلب علماً ) أمثال 18:15
هذه الكلمات تشجع على السعي لفهم الذات واكتساب الحكمة ، وهي خطوة أساسية نحو بناء حياة متوازنة .
كيف تبدأ رحلة إعادة اكتشاف الذات ؟
1 . التأمل في الهدف من الحياة :
قال تعالى :
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ المؤمنون: 115
هذا السؤال الإلهي يدعونا للتفكر في غاياتنا ، هل نحن نسير في الحياة بلا هدف أم أننا ندرك الغاية التي خُلقنا من أجلها ؟ الجلوس مع النفس للتأمل في هذه الأسئلة يفتح آفاقًا جديدة لفهم دورنا الحقيقي في الحياة وهل أنا إنسان صالح أم إنسان مصلح ؟ { ولنا هنا وقفة مستقبلاً إن شاء الله تعالي }
2 . محاسبة النفس بصدق :
قال عمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه : حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ، كذا الأكبرِ قال تعالي : ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾
الراوي: ثابت بن الحجاج | المحدث : ابن كثير | المصدر : مسند الفاروق
الصفحة أو الرقم : 2/618 | خلاصة حكم المحدث : مشهور وفيه انقطاع
التخريج : أخرجه أحمد في ((الزهد)) (633)، وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس
محاسبة النفس ليست فقط مراجعة للأخطاء ، بل أيضًا فرصة للتعلم والنمو . حاسب نفسك ولكن لا تجلدها ..
اسأل نفسك:
ماهي علاقتي مع ربي ؟
ماذا حققت اليوم ؟ ماذا أريد أن أكون الأن ؟ وغداً ؟
هل كنت صادقًا مع نفسي حقاً ومع الآخرين فعلاً ؟
ما هي التحديات التي أواجهها ؟
ما الذي يمكنني تحسينه وتطويره ؟
3 . التحدث مع نفسك :
قد يبدو الأمر غريبًا ،وضرباً من الخيال اللأمعقول ،و لكنه فعال للغاية ،لا تخجل من التحدث مع نفسك بصدق وصراحة فهذا يعينك على فهم دوافعك ومشاعرك ، استمع إلى أفكارك الداخلية كما لو كنت تتحدث إلى صديق مقرب ودون أفكارك وأهدافك .
4 . تدوين يومياتك وتأملاتك :
الكتابة وسيلة فعالة لفهم أعمق لما يدور بداخلك ، دوّن أفكارك ومخاوفك وأحلامك ، الكتابة اليومية تساعدك على ملاحظة الأنماط المتكررة وفهم أعمق لذاتك .
5 – تجربة أشياء جديدة :
أحيانًا، قد نحتاج إلى الخروج من دائرة الراحة لنكتشف جانبًا جديدًا من أنفسنا. جرب هواية جديدة، أو تطوع في نشاط مختلف، أو حتى استكشف أماكن جديدة، قال المسيح عليه السلام :
” لا تخف، فقط آمن” مرقس 5:36
الخروج من دائرة الراحة هو أحد أفضل الطرق لاكتشاف الذات ، جرب هواية جديدة ، تعلم مهارة ، أو سافر إلى مكان لم تزره من قبل ، كل تجربة تضيف شيئًا جديدًا إلى شخصيتك .
قصص ملهمة من الدين والواقع :
من القرآن الكريم، نجد قصة سيدنا موسى عليه السلام في البداية ، شعر بالضعف والخوف من مواجهة فرعون وقال :
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ﴾ الشعراء: 12
لكن الله أعانه وأظهر له قدراته الحقيقية ، هذه القصة تعلمنا أن الثقة والإيمان بالله اولاً ثم الثقة التي تنبع من الإيمان : هما مفتاح التغلب على الخوف واكتشاف قدراتنا
وفي الواقع ، نجد شخصيات مثل المهاتما غاندي ، الذي بدأ رحلته كإنسان عادي لكنه نجح في تحقيق استقلال بلاده من خلال الإيمان بفكرة بسيطة والعمل على تحقيقها بسلام .
التأمل والادراك الصحيح :
الإدراك الصحيح للنفس والحياة هو مفتاح التعامل مع التحديات اليومية. هذا الإدراك يساعدنا على فهم ما نريد وما لا نريد، مما يجعل قراراتنا أكثر وضوحًا وحياتنا أكثر بساطة .
قال الله تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ النحل: 97
الحياة الطيبة تبدأ حين ندرك ذواتنا ونعمل بما يرضي الله وينسجم إدراكنا مع أهدافنا الداخلية .
الخـــــــــلاصـــــــــــــة …
رحلة اكتشاف الذات ليست قرارًا يُتخذ في لحظة ، بل هي عملية مستمرة تحتاج إلى صبر وتفهم ، ابدأ بخطوات صغيرة ، مثل تخصيص وقت يومي للتأمل أو كتابة أفكارك .
فهل أنت مستعد لتبدأ رحلتك نحو ذاتك ؟
تذكر أن معرفة نفسك هي أعظم هدية تقدمها لنفسك وللعالم من حولك ، وحافظ علي وعدك لنفسك وكون صديقاً لها .
د / رمضان ابوضيف .. خبير الجودة بالمعهد العربي للإعتماد