مقــــــــــدمة
ليست الحساسية النفسية مجرد صفةٍ يوصف بها الشخص، بل هي بناءٌ معقد يتشابك فيه الفسيولوجي مع النفسي والاجتماعي. غالباً ما تُوصم الحساسية المفرطة بالضعف أو الدراماتيكية، لكن البحث العلمي الحديث ينظر إليها على أنها سمةٌ شخصية عصبية-بيولوجية تميز ما يقارب 15-20% من السكان. هؤلاء الأشخاص يمتلكون جهازاً عصبياً أكثر عمقاً في معالجة المعلومات الحسية والعاطفية، مما يجعلهم أقدر على التقاط التفاصيل الدقيقة، لكنهم أيضاً أكثر عرضة للشعور بالارتباك والإرهاق في البيئات المحفزة. هذا المقال يتعمق في تعريف الحساسية النفسية، ويحلل جذورها، ويقيم أثرها المزدوج على الفرد والمحيط الاجتماعي .

التعريف والأبعاد
تُعرف الحساسية النفسية (Psychological Sensitivity) على أنها ميل فطري أو مكتسب للتفاعل بعمق مع المحفزات الداخلية (المشاعر، الأفكار) والخارجية (البيئة، العلاقات). وهي سمة متعددة الأبعاد، أبرزها :
1️⃣ عمق المعالجة (Depth of Processing) : يقوم الدماغ بمعالجة المعلومات بشكل أعمق وأشمل، مما يؤدي إلى التأمل الطويل والتفكير التحليلي، لكنه قد يقود أيضاً إلى “شلل التحليل” (Analysis Paralysis) والتردد .
2️⃣ الاستثارة الزائدة (Overarousability) : الجهاز العصبي سريع الاستثارة وسهل التشبع بالمحفزات (الأضواء، الأصوات، الحشود)، مما يولد حاجة ملحة للانسحاب لإعادة شحن الطاقة
3️⃣ الحساسية العاطفية (Emotional Reactivity) : استجابة عاطفية مكثفة، سواء كانت إيجابية (فرح عارم، إبداع متدفق) أو سلبية (حزن عميق، قلق شديد).
4️⃣ الحساسية للحساسيات الدقيقة (Sensitivity to Subtleties) : القدرة على ملاحظة ما يفوته الآخرون، مثل التغير الطفيف في نبرة الصوت أو لغة الجسد، مما يجعلهم “قارئين بارعين” للمشاعر غير المعلنة .
الأسباب : بين الفطرة والتربية
تتفاعل مجموعة من العوامل لتشكيل الحساسية النفسية :
⏺︎ الأسس البيولوجية والعصبية : أظهرت دراسات التصوير العصبي (مثل fMRI) أن الأشخاص ذوي الحساسية العالية يظهرون نشاطاً متزايداً في مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف، والوعي الذاتي، ومعالجة المعلومات الحسية (مثل القشرة الجزيرية Insula ) .
⏺︎ الوراثة : تلعب الجينات دوراً مهماً في تشكيل هذه السمة، حيث تنتقل غالباً عبر الأجيال .
⏺︎ البيئة والتنشئة : تلعب التجارب الحياتية، خاصة في الطفولة، دوراً حاسماً في تحديد ما إذا كانت الحساسية ستتحول إلى نقطة قوة أو ضعف. فالتربية القاسية أو البيئة غير المستقرة قد تزيد من حدة القلق والانسحاب، بينما البيئة الداعمة والمتفهمة تساعد الفرد على تنمية مهارات تنظيم العاطفة وتحويل حساسيته إلى إبداع وتعاطف .

التأثيرات على الفرد والمجتمع :
للسمة تأثير ثنائي يمكن توجيهه بإدراكها :
كهدية (عند الوعي بها) : يتحول الأفراد ذوو الحساسية العالية إلى عناصر أساسية في المجتمع. فهم المستشارون المتعاطفون، والفنانون المبدعون، والقادة الأخلاقيون. قدرتهم على استشعار مشاعر الآخرين تجعلهم أصدقاء وأزواجاً مخلصين، كما أن وعيهم العميق بالمشاكل الاجتماعية والبيئية يدفعهم ليكونوا عوامل تغيير إيجابية .
كعبء (عند عدم فهمها) : قد تؤدي الحساسية غير المُدارة إلى :
⚛︎ الإرهاق العاطفي والجسدي : بسبب التعاطف الشديد والتشبع المستمر بالمحفزات .
⚛︎ القلق والاكتئاب : نتيجة اجترار الأفكار السلبية والشعور بالاختلاف .
⚛︎ صعوبات في العلاقات : بسبب سوء تفسير التعليقات العابرة على أنها هجوم شخصي .
⚛︎ التجنب : قد يلجأ الفرد إلى تجنب المواقف الاجتماعية أو المهنية الصعبة لحماية نفسه .

ختــــــــــــــــاما …
الحساسية النفسية ليست عيباً يجب إصلاحه، بل هي طيف من الوعي يتطلب الفهم والرعاية. تحويلها من نقطة ضعف إلى مصدر للقوة يتطلب من الفرد والمجتمع معاً خلق مساحات آمنة تعترف بهذه السمة وتقدرها. عندما نتعلم كمجتمع أن نرى العمق العاطفي والإدراكي الذي يجلبه الأشخاص ذوو الحساسية العالية، فإننا لا نخفف معاناتهم فحسب، بل نثري نسيجنا الإنساني الجماعي بعناصر من التعاطف، والجمال، والتفكير المتعمق الذي نحتاجه أكثر من أي وقت مضى .
د / أمانى سمير الضوى … استشاري بالمعهد العربي للاعتماد


 
						 
						